الثلاثاء، مايو 03، 2011

مصر… بتاعة مين؟

مصر... بتاعة مين ؟؟؟

بقلم وتصوير: محمد شادي

DSCN2534
كالعادة في صباح كل سبت، أخرج من بيتي في ضاحية مصر الجديدة التي لاتزال تحتفظ ببعض جمال كان يغمرها في يوم من الأيام، تأخذني للحظات صورتها القديمة التي رأيتها عليا أيام المدرسة الابتدائية منذ بضعة وثلاثين عاماً مضت. يأخذني الكسل لأن أترك سيارتي الجديدة لأتمشى في شارع الأهرام الجميل تحت البواكي الممتدة بطول الشارع لأفيق على مرارة تكسو وجوه الناس في الشارع. لم تعد مصر الجديدة وميدان روكسي كما كانا، فقدا الكثير من بريقهما، كما فقدت أن دهشة الطفولة أمام الفاترنات الرائعة. لون التراب لم يعد فقط يكسو واجهات العمارات، بل امتد ليكسو وجوه الناس. عدت أدراجي سريعاً، لأدير محرك سيارتي ولأنطلق نحو الملاذ الأخير كلما احسست بوجع القلب، إلى ميدان سيدنا الحسين، لأختبئ في أي من مقاهيه المتعددة، وحيداً.
DSCF0311

في الطريق، لاحظت أن المصريين لم يعودوا ودودين كما كانوا، وكما كانت شهرتهم على مر الزمن. قررت الهروب مرة أخرى، هذه المرة إلى داخل الحواري الضيقة لخان الخليلي. وفي نهاية المطاف وصلت إلى وجهتي، مقهى السكرية، أو ما تبقى منه. جلست في مكاني المفضل بعد أن القيت السلام على صديقي العجوز، عم محمد، لم احتج لأن أطلب أي شيء، فعم محمد يعرف طلبي جيداً، (قهوة على الريحة بن غامق في كباية)، وبينما اختفى عم محمد داخل المقهى الذي تقلصت مساحته مؤخراً عدة مرات، راحت عيني تتجول في المكان، وبدأت أصوات الورش المجاورة تتسلل إلى أذني على استحياء.

DSCN0160

مر علينا عم سيد صاحب ورشة الصدف المجاورة للمقهى، دخل إلى عم محمد وبيده كوب فارغة، وخرج والكوب ممتلئة بالماء الذي تتصاعد منه الأبخرة. ألقيت عليه السلام فلم يسمعني، كررت المحاولة رافعا صوتي فالتفت نحوي راداً السلام وراسماً ابتسامة باهتة على وجهه المجعد بفعل الزمن.

جاء عم محمد بالقهوة فطلبت منه أن يأتيني بها عند عم سيد، وجلس ثلاثتنا حول الطاولة التي يعمل عليها عم سيد.

DSCN0121

سألت صديقاي العجوزان: لماذا يبدو المكان فارغاً، كان خان الخليلي خلية نحل لا تهدأ، على أن ما أراه اليوم كما لو كان قاعة مهجورة في متحف، قلما تدخل اليها أقدام الزائرين.

بدأ عم أحمد كمن كان ينتظر السؤال: "لم يعد هناك الكثير، فصاحب المقهى كلما زاد الضغط المادي عليه، يبيع جزء من المكان حتى لم يعد باقياً سوى ما يقرب من ربع المساحة الأصلية، فالمرتادون لم يعودوا يأتون كعادتهم، تحت وطأة الأزمة المالية التي يعيشها كل الناس اليوم. لم يعد لدينا سوى القليل من الرواد والباقي هم أصحاب الورش المجاورة والذين هم أيضاً صاروا يكتفون بالماء الساخن، عوضاً عن الطلبات. الحال أصبح صعيباً" على حد تعبير عم محمد.

DSCN0126

طول ذلك الوقت كان عم سيد يجهز شايه بهدوء ثم عاد لمقعده ليبدأ العمل في هدوء، وبطريقة ميكانيكية آلية لا روح فيها، نظرت إلى عينيه المركزتين على إصبعه المبلل بالغراء فبدأ يتكلم ببطء. "كان السائحين فيما مضى يأتون إلى الورشة ليروا بعيونهم كيف تصنع تلك المشغولات التي يرونها تامة الصنع في المحال بالخارج، وعندما كانوا يفعلون ذلك، يدركون مدى صعوبة الصنعة وجمالها، فكانوا مستعدون لدفع كل ما نطلبه، أما اليوم، فلم يعد هناك صنايعية ولا ورش، لقد قتلت الصين والمنتجات الصينية كل ما تبقى لنا من أمل، فلم يعد لدينا اليوم سوى أن نعمل هذه المنتجات من علب وصناديق وإطارات الصور فقط للمحال التي لا تستطيع ان تستورد المنتجات الصينية. قل ثمننا وراحت أيام عزنا، وضاعت الصنعة."

DSCN0164 DSCN0130  DSCN0138

سألت عم سيد عن اختلاف الصنعة اليوم عن الماضي، توقفت يديه عن العمل، ونظر في عيني مباشرة ليقول بنبرة فيها الكثير من الندم والحسرة: "أين هي الصنعة اليوم؟ لم يعد في مقدورنا أن نشتري الصدف الحقيقي، وها هي الصين تبيعنا القطع سابقة التشكيل والمصنوعة من البلاستيك، وأصبحنا مضطرين لاستخدامها فهي أقل كلفة. وأصبحنا نقدم منتجا من الدرجة الثانية، بينما نرى مثلاً منتجات رائعة مستوردة من سوريا وإيران، كنا والله في الماضي نعمل أروع منها."

توقف الحديث فجأة كما بدأ فجأة وعاد عم سيد لأدائه الميكانيكي الآلي، وانهمكت أنا في التقاط بعض الصور له، قبل أن تفرغ أكواب الشاي والقهوة. ويسود الهدوء مرة أخرى.

DSCN0151

خرجت من المكان ماراً على نقطة شرطة السياحة التي كان عساكرها يتناوبون النظر إلي باستغراب بينما الضابط الجالس بالداخل مشغول بهاتفه المحمول. عبرت الدرج الواقع تحت اللوحة التأسيسية للمكان، وشعرت بالمرارة حين تذكرت كيف كان هذا المكان من قبل.

DSCN0116

وأنا في طريقي نحو وسط البلد، عبرت عيني على ما تبقى من سقف المسرح القومي بعد الحريق، تأكد لي أن السقف الرائع قد سقط تماماً كما ذكرت التقارير الصحفية منذ ليلة الحريق بينما وفي ذات الوقت تبقت القبة المعدنية التي كانت الهيكل الداخلي للسقف، فتأكد لي كذلك أن المسئولين لم يكذبوا حين نفوا سقوط السقف!!!

DSCF2720

نزولاً من كوبري الأزهر وعبر شارع عدلي ثم يساراً إلى شارع شريف، على امتداده عبر البنك الركزي المصري، محل ملابس الأهرام، ومحل شاهين الشهير للأسماك المملحة، ثم التوحيد والنور ثم مقهى البرابرة، فيميناً في شارع محمد محمود، الجامعة الأمريكية ومكتبتها، ثم ماكدونالدز وبيتزا هت وهارديز الذي احتل مكان مقهى أسترا الشهير الذي اختفى منذ ما يربو على العشرين عاماً، طفت بسيارتي حول ميدان التحرير.

استوقفتني إشارة المرور فأغمضت عيني للحظة متذكراً صورة قاعدة لتمثال المهيبة التي انتصبت في وسط الميدان في يوم من الأيام قبل أن يجتاح مكانها ساحة انتظار المجمع بواجهته المتجهمة، أخذت طريقي ببطء واستدت إلى اليمين عبر النفق الصغير، ثم إلى كوبري قصر النيل حيث أخبرتني وجوه العابرين على الكوبري عما لم استطع أن أتفهمه في حينه. حالة الوجوم تكسو الوجوه، حتى صور الأحباء اختلفت، زانت البسمات من على وجوههم، بينما وقف الكثيرون، متوحدون شاخصي الأبصار، أو موجهين نظرهم نحو الماء تحتهم، كمن يحاول أن يتذكر شيئاً نسيه منذ زمن. التساؤلات على الوجوه والأجوبة محتجبة عنهم.

DSCN2746

رفعت رأسي لأرى إن كانت الإشارة المرورية قد تغير لونها من الأحمر إلى الأخضر فقابلني مشهد برج القاهرة المهيب، استدرت إلى اليمين ثم يساراً باتجاه شارع البرج، اوفقت سيارتي وتوجهت إلى شباك التذاكر، لم أكن قد صعدت البرج منذ عدة أعوام.

DSCF0318

من فوق البرج نظرت نحو القاهرة، لأرى الدخان يكسوها بسحابة قاتمة، لم يعد بإمكاني أن أرى الهرم من هنا كما تعودت، بينما على الجانب الآخر وتحت أقدام البرج تلألأت على صفحة النيل صفوف من المراكب السياحية الضخمة، لا يستطيع الكثيرون أن يدفعوا فقط الحد الأدنى لدخولها، ناهيك عن تناول وجبة فيها.

DSCN2526

عائداً على كوبري قصر النيل ولكن سيراً هذه المرة، استوقفني مشهد ثلاثة أطفال يلهون على فلوكة صغيرة تكاد لا تظهر إلى جوار المطاعم النيلية العائمة بضخامتها البادية. سألت نفسي سؤالاً وخجلت حين لم أجد له رداً، "هي مصر بقت بتاعة مين؟."

DSCN2586

DSCN2604 DSCN2595 DSCN2583

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من ارشيف الحواديت