الأربعاء، أبريل 20، 2011

شبرا بالاس - القصر والرجل والحكاية




القصر.. والرجل.. والحكاية

في ضيافة حضرة والي مصر ... الكبير




بقلم وتصوير: محمد شادي


كان اليوم على وشك الانتصاف، حين أخبرني ممثله بموافقة حضرته على إجراء الحوار.. تحدد الموعد الذي انتظرته كثيراً، في تمام الظهيرة، والمكان هو قصر شبرا، والذي سميت على اسمه دار السينما الشهيرة بالمنطقة "شبرا بالاس".

كانت الأوراق المبعثرة أمامي على الطاولة تحمل كماً هائلاً من المعلومات التي قمت بجمعها أثناء بحثي عن الرجل كي أتمكن من إجراء الحوار معه. كانت كل ورقة تحمل عددا من الخطوط الحمراء وعلامات الاستفهام، تحدد جميعها مواضعاً لأسئلة، وكان مجرد التفكير في ذلك يصيبني بالحيرة، فأي حوار ذلك الذي سيجيب عن كل هذه التساؤلات، وخاصة مع شخصية مثيرة للجدل مثل مضيفي، محمد علي بك الكبير، والي مصر!

في أثناء الرحلة إلى القصر، كانت عيناي في حالة عشق لجمال العربة التي تقلني إلى صاحب القصر الكبير، راودني سؤال: إذا كان هذا حال العربة، فما الحال سيكون بالقصر نفسه؟ ناهيك عن الشخص ذاته؟؟








محمد علي بك الكبير، جاء إلى سدة الحكم في مصر بعد رقدة طويلة للتاريخ، باعثاً رؤى التحديث في كل نواحي الحياة المصرية التي شملت العلم، والاقتصاد، والسياسة، والزراعة، والصناعة، إضافة إلى العمارة والفنون.

هاأنا ذا اليوم في رحاب هذه العمارة الرائعة التي تترجم دون أدنى شك ملامح هذه الحقبة الهامة من بدايات تاريخ مصر الحديث، فهذه التحفة المعمارية تنفرد بكونها تجمع بين كل من الرحابة والخصوصية في تناغم رائع.

أثناء عبورنا البوابة الحديدية المزخرفة، والتي لا يضاهيها جمالاً سوى نقوش السور الحجري ذاته، سبقتني عيناي إلى رحاب اللون الأخضر النضر، أمام الدرج المؤدي إلى قصر الوالي، يخرج علينا الحاجب ليقودني عبر حدائق القصر باتجاه سراي الفسقية، حيث يتم اللقاء، تختلط بأنفي الروائح الزكية، وببعض التدقيق أمكنني ان أميز روائح أشجار الموالح الغضة، ممتزجة مع عطر الزهور والورد البلدي الآتية من عمق المكان، ونسائم أشجار الفاكهة التي جئ بها من كل مكان بالعالم لتزرع في مصر في حديقة هذا القصر المنيف. وسط هذا الزخم الممتع من أزكى الروائح، أطلت عن يسارنا- في نهاية الممشى الحجري- سراي الفسقية، بأسوارها التي ترتفع لطابق واحد أعلى من مستوى الأرض. تركني الحاجب عند أول درجة لآخر يستقبلني عبر الباب الخشبي الموشى بالنقوش أعلى الدرج.






أنشئت هذه السراي كإضافة للقصر الذي شيد عام 1808م، وفي عام 1812م وضع مسيو "دروفينتي" القنصل الفرنسي العام بمصر تصميم سراي الفسقية، وقام بالتنفيذ المهندس الفرنسي "باسكال كوست" تحت إشراف المهندس الأرمني المصري "يوسف حكيكيان" أحد أعضاء البعثة التعليمية المصرية إلى انجلترا.







قادني الحاجب عبر الأروقة المحيطة بحوض الفسقية، كانت الأعمدة المائة تحمل سقوفاً مستطيلة يتوسطها جواسق تبرز واجهاتها داخل الحوض، استوقفتني الرسوم التي تزين الأسقف والجواسق بما تحمله من صور تمثل الأسطول المصري وسط البحار، إضافة إلى أشهر حكماء الإغريق والرومان أمثال الطبيب اليوناني "أوراتوري دي موسيني" (384-322 ق م)، ومؤلف الإلياذة والأوديسا "هوميروس"، والسياسي الروماني "سافيو كاتوني" (234-149 ق م)، و الفيلسوف "سقراط".







وقفت أخيراً بباب قاعة الجوز، صالون السراي، لتستقبلني رائحته الطيبة، كما لو كانت أخشابه لاتزال أشجاراً حية تفوح منها العطور. خطوت داخل القاعة مشدوهاً بالزخارف الرائعة على الجدران والأسقف، وحتى الأرضيات التي تحت قدمي، وبينما أنا مأخوذ بسحر المكان، جاءني صوته من خلفي مرحباً.






صوت هادئ، رصين، على أنه في غاية الحسم، بلغة عربية تشوبها لكنة غريبة، على أنها سليمة، دعاني للجلوس، وتربع على عرش صغير في صدر القاعة. لم تكد كلمات الترحيب والشكر المتبادلة بيننا تنتهي حتى جئ له بالنارجيلة، وصب الخادم لنا كئوس العصير الطازج، نظر نحوي، فبادرته بالسؤال: من أنت؟.



 




"محمد علي" بن "إبراهيم أغا"- رئيس حرس الطرق في مدينة قولة، إحدى ثغور مقدونيا- مولود عام 1769م، كفلني عمي "طوسون أغا"- محافظ قولة- بعد وفاة والدي، ثم من بعده في صباي وبكرة شبابي، كفلني السيد "شربتجي براوسطا" صديق والدي وعمي. لما كانت عائلتي تمارس مهام الحكم منذ ولادتي، فقد ورثت عنهم-على ما يبدو- مؤهلات الساسة من شجاعة وبسالة، وذكاء وسعة حيلة، مما أتاح لي النجاح في أعمالي بالتجارة، حتى كلفت من حاكم قولة بتحصيل الضرائب من إحدى القرى الممتنعة، ولما تم لي ذلك بالحكمة والحزم، أنعم علي بوظيفة "بلوك باشي"، ولما جاءت حملة الفرنسيس مع نابليون، أرسلت ضمن قوة من قولة ورقيت إلى رتبة "بكباشي"، وبعد ما أظهرت من البسالة إبان موقعة أبي قير الشهيرة، كوفئت برتبة "ساري جشمة"- قائد ألف- وبعدها استقر لي المقام في مصر.








راودتني أفكار عدة وأنا أستمع لكلام الرجل، فعلى خلاف ما ذكره عدد من المؤرخين، لم يكن محمد علي مجرد مملوك في بلاط حكام مصر، بل كانت نشأته بالفعل تحمل إرهاصات طموح القيادة، على أن آخرين أنصفوه حين أخبروا عنه أنه في الزمن الذي اشتد فيه الصراع بين العثمانيين والمماليك وقوات الانجليز الطامعة في مصر، كانت هناك قوة رابعة على مسرح الأحداث، وهي شعب مصر، والذي كان رهان محمد علي عليه رابحاً، فكما التزم محمد علي جبهة الشعب في ظل تنامي الوعي القومي المصري لدى طوائف الشعب وقياداته، جاء اختيار القوة صاحبة الحق الشرعي- شعب مصر- لمحمد علي وفرضه على السلطنة العثمانية، وليصدر فرمان تولية محمد علي حكم مصر تحت الضغط الشعبي، في الثالث عشر من مايو عام 1805م.









خرجنا من قاعة الصالون عبر الرواق الشرقي متجهين إلى القاعة العربية، قاعة الأسماء. سألته: ما سر اهتمامك بالخط العربي وفنونه، علماً بأنني أرى اهتمامك بكل مدارس الفن الأخرى؟






أولاً أنا مسلم ومن عائلة مسلمة لذا فإن الفنون الإسلامية هي جزء من تركيبتي الثقافية، كما أن من هواياتي قراءة الشعر العربي، ولما أحمله من احترام للحرف العربي، جعلت هذه القاعة، كذلك فهي سجل كامل بأسماء الأبناء والأحفاد، ولعلك ترى مكانة أبنائي إبراهيم باشا، وطوسون باشا، وإسماعيل باشا، من مكانهم في زخارف سقف القاعة.





سألته: حضرة والي مصر، محمد علي بك الكبير، ينظر الكثيرون إلى مذبحة القلعة على أنها نقطة سوداء في تاريخكم، فماذا ترى أنت فيها؟

أجابني بصرامة لم أعهدها منه طول حوارنا سوياً، عندما تحكم دولة تملك جميع المقومات التي تجعل منها قوة عظمى إمبراطورية، وتجد أنها تقف على بعد خطوات قليلة من ذلك بسبب تلك الصراعات، دون تحقيق الحلم، فالمنطق يقول أن تستبعد أسباب الخلاف في سبيل ذلك، أو فلنقل أن الأهداف العظيمة قد تطلب تضحيات جليلة، وعزائي الوحيد، أنني لم أفعل ذلك الشئ ضد شعب مصر، ولكن ضد هؤلاء الذين كبلوه بالأغلال ومنعوه من احتلال موقعه الواجب له في تاريخ العالم.






أخذتني كلماته، ورحت أفكر فيها بينما نحن في الرواق الشمالي الذي زينته صور آلهة الأساطير اليونانية، كأنما لسان حالها يقول أن هذا الرجل إنما أراد لمصر أن تكون أرضاً يبثون فيه الإبداع في مجالات الفكر والفن والعلوم.









دخلنا قاعة البلياردو، وعلى السقف كانت صور السيدات اللائي يمثلن الشهور الاثنتا عشر في تناغم رائع وكيف أن المكان الواحد يمكن أن يجمع أساليباُ فنية متعددة في روعة فائقة، تبوح بأن أصول الجماليات واحدة في كل مكان، وأن الجمع بينها ممكن إذا فكرت بمنطق التناغم وليس التنافس، سألت: لماذا شبرا؟؟

ابتسم ونظر نحوي ثم استدار باتجاه النيل وأشار إليه.








كان للقاهرة قاعدة عمرانية كبيرة، ما بين مبان مأهولة وأخرى تهدمت وفضل أصحابها الانتقال إلى أماكن أخرى، وكان من عادة المماليك أن يقوموا بمصادرة هذه المبان لهدمها، وإقامة عمائرهم مكانها، ولكن ذلك كان من أسباب سخط المصريين عليهم، فلما جاء محمد علي للحكم، فكر في أن يجعل للقاهرة امتداداً عمرانياً باتجاه الشمال على شاطئ النيل، فأسس مدن بولاق وشبرا، ودعا كبار موظفيه لفعل الشئ نفسه، فكان أمره إلى مشيد عمائره "ذو الفقار كتخدا" ليبدأ في بناء القصر في نهايات عام1808م.






 







جاءت عمارة القصر على طراز قصور الحدائق وقد وقع اختياره على قصر "طوبقابي" باسطنبول، ليكون قصره الكبير في شبرا على غراره.


كانت الشمس تميل للمغيب، بينما نحن نعبر الرواق الغربي باتجاه قاعة الطعام.




 






كانت الزخارف التي تزين سقف وجدران القاعة تشي بما لا يدع مجالاً للشك بالعلاقة الواضحة بين شخصية محمد علي والأرض، فما بين مناظر تصور مشاهد من الحياة الطيبعية والبرية في مصر، تأخذنا مشاهد أخرى إلى قولة، مسقط رأس محمد علي.











وما بين مشاهد من صحراء مصر وطيورها، تأتي مشاهد البحر المتوسط والبحر الأسود حاملة ذكريات الطفولة التي لم تختف من ذاكرة الوالي الطموح.








تركت لمخيلتي العنان أثناء تناول الطعام، محاولاً أن أسبر لأغوار نفس الرجل، على أنه لم تبد على وجهه أية تعبيرات قد تشي بما يعتمل في صدره من أحاسيس، أو في رأسه من أفكار.








بعد انتهائنا من الوليمة التي أعدها لنا حضرة والي مصر، تركني وحيداً، غادرني بعد أن أعلمني بانتهاء المقابلة، فشكرت كرم ضيافته، بينما لم تزل في نفسي آكام من الأسئلة التي لم تتح لي الفرصة كي أسألها، وبعد لحظات، كنت على درج السراي مرة أخرى، ناظراً باتجاه بوابة القصر، عن يميني، بدت سراي الجبلاية سامقة أعلى مدرجات مزروعة، حملت لعيني صورة من التاريخ لحدائق بابل المعلقة، كانت أضواء أعمدة الإنارة ترقص، ولما لاحظ الحاجب دهشتي أخبرني بأن الوالي أمر ببناء مصنع لإنتاج غاز الاستصباح لإمداد المصابيح بمصدر نظيف للطاقة، مد الحاجب الخطى فأسرعت خطواتي متابعاً أثره، مانعاً نفسي قدر جهدي من أن تنمحي صورة الرجل أو المكان من ذاكرتي.











Mohamed Shady

Cairo 2006








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من ارشيف الحواديت