الأحد، أبريل 17، 2011

العين تسمع و الأذن ترى







العين تسمع و الأذن ترى







بقلم و تصوير: محمد شادي


لم الفجر قد بزغ بعد حين سمعت همساً عميقاً، كأنما يأتي من أزمنة سحيقة وراء هذا العالم. "أنت.. نعم أنت.. أأنت المذكور في المخطوطات القديمة؟ " ، وقبل أن أجيب، تملكتني الدهشة أكثر حين باغتني الصوت مرة أخرى: "لكم تمنيت زيارة مدينتكم، تلك التي أخبر عنها القدماء منذ قرون، أنها المكان الوحيد الذي يتعانق فيه الماضي و المستقبل.."
قبل أن أفيق من دهشتي، كانت يد أمي تهزني في حنو لتوقظني بينما علقت بأهدابي نصف المفتوحة، تلك الكلمات، الحلم.







تاركاً سيارة الأجرة التي أقلتني إلى ميدان الأزهر العتيق، عابراً النفق المؤدي إلى الجانب الآخر في مواجهة مسجد سيدنا الإمام الحسين. خطوت بضع خطوات باتجاه شارع "الصنادقية" و عيناى معلقتان بالواجهة الزجاجية لمكتبة، يفوح من عناوين كتبها عطر الماضي الجميل، حين كان القلم العربي مصباحاً يستضئ به العالم في عصوره المظلمة.


راداً التحية، لوحت بيدي باتجاه "صبي القهوة" الذي صاح بابتسامته العذبة أن قهوتي ستكون في لحظات بين يدي، واقتربت أكثر إلى "الفاترينة" حين شعرت بدفء يده على كتفي، عم أحمد، صاحب المكتبة. عجوز جاوز الستين، قارئ جيد لأغلب ما على رفوف مكتبته الصغيرة، و له أدين بالفضل الكبير فيما أعرفه عن أمهات الكتب في التراث الإسلامي. سألني عم أحمد، و قد قرأ في عيني شغف المعرفة، عما إذا كنت أعرف السر الذي تمكن المسلمون عن طريقه من أن يستحوذوا على قلوب وعقول الدنيا بأسرها.


واصل عم أحمد قائلاً: " كانت البداية منذ أكثر من خمسة عشر قرناً من الزمان، عندما أفاق العرب في الجزيرة العربية على الكتاب الجديد الذي خرج من بين ديارهم، بلغتهم و بنفس الحروف التي يتكلمونها ذاتها، القرآن.

على الرغم من معرفة العرب للكتابة قبل ظهور الإسلام بوقت طويل، إلا أن الإسلام كان البداية الحقيقية، إذ أن القرآن كان الدافع المؤثر وراء ذلك الميراث الرائع من الفنون التي قامت بداية لحفظه والحفاظ عليه من الضياع، وهو ما أسهم بشكل كبير في تطور فنون الكتابة (الخطوط) العربية.








وصلت فناجين القهوة "المحوجة" يحمل الهواء منها روائح "الحبهان" و غيره من أصناف البهارات العربية المختلطة برائحة البن، ناولني عم أحمد الفنجان و أتم حديثه: "كان من بين من أسلموا فنانون وكتاب وناسخين- على الرغم من عدم وجود نص صريح يحرم التصوير أو التشخيص- ممن آثروا أن يكون الاعتماد على حروف الكتابة و الزخارف الكتابية بمثابة التحدي الكبير لإثبات مقدرتهم الفنية الفذة، و كان لهم ما أرادوا حيث وجدوه في الحروف ذاتها التي يكتبون بها كتابهم المقدس، القرآن.


لقد أعملوا فنهم في تزيين الكتب، وزخرفة الأبنية المختلفة كما في حوائط و أعمدة أقدم مساجد مصر- جامع عمرو و جامع ابن طولون- فقد خطوا نصوصاً قرآنية واستخدموا زخارف نصية مكتوبة جنبا إلى جنب مع الزخارف النباتية والأشكال الهندسية التي وجدوا فيها تعبيراً عن روح الفكر الإسلامي، فمن شكل الحروف العربية ومن الزخارف التي استنطقوها من تلك الحروف تركوا لنا ميراثاً هائلاُ من ملايين الأمثلة الفنية الخالدة.







بدأت الكتابة العربية بالخط الكوفي غير المنقوط في البداية، و استغرق العرب نصف قرن حتى بدأوا في استخدام النقاط كعلامات لتشكيل الحروف لتسهيل النطق السليم للكلمات، ثم للتمييز بين الحروف المتشابهة رسماً، ثم تلا ذلك تطور آخر في شكل الحرف ذاته لتزدهر حديقة الكتابة العربية بالعديد والعديد من الخطوط.






و مع انتشار الإسلام و حضارته ليغطي أكثر من نصف مساحة العالم المعروف آنذاك، تأثرت الكتابة العربية بشدة بالعديد من الشعوب التي أثرت الإسلام بفنونها، فأخذت عن العرب اللغة والحروف العربية وأضافت لهم أساليبها في الكتابة وهو ما ظهر جلياً في المساجد و المدارس التي بنيت في تلك البلاد، فكانت كلمات القرآن المنقوشة في خطوط عربية بديعة بمثابة البركة الدائمة في حياة هذه الشعوب.





أخذني عم أحمد في جولة صغيرة بدأت بالسير إلى مسجد ومدرسة السلطان قلاوون القريبين من المكتبة، ومن الزخارف الكوفية على مئذنته الشهيرة، إلى المئذنة الرائعة لمسجد السلطان الناصر محمد بن قلاوون وزخارفها النصية و النباتية المذهلة، التي منحتها- و بلا منازع- لقب أجمل مآذن القاهرة المملوكية.


أما في داخل المسجد، فالعين تحار ما بين النقوش و الكتابات التي تعلو الجدران المحيطة بالصحن المربع المكشوف، وبين تلك التي تحيط بقبة "الميضأة" التي تتوسط الصحن، وبين تلك التي تزين القبة ذاتها من الداخل.


















فإذا انتقلنا إلى رواق القبلة، فأن الأبواب المرصعة بدعوات: "العز لمولانا السلطان ناصر الدين و الدنيا الظاهر برقوق عز و نصر" ، و الآيات التي تزين السقف في إبداع فني ليس له مثيل من الكلمات و الزخارف المذهبة البارزة في انسجام يدعو للتأمل و النفكر في عظمة الله.








أما مقصورة الدفن فائقة البساطة، فنصل إليها عبر باب خشبي نقشت عليه عبارات الدعاء للسلطان المتوفى، فإذا دخلت إلى مواجهة هذه المقصورة، جذبت أنظارك الأضواء الآتية من النوافذ المرتفعة التي تحمل هي أيضاً زخارف هندسية ونباتية مفرغة في الجص بواسطة الزجاج الملون، و يتصدرها كلمات "عز لمولانا" "الظاهر برقوق" من الزجاج الأبيض.



غادرنا مسجد السلطان برقوق إلى شارع المعز باتجاه جامع الحاكم، واستوقفتني النقوش على جدران و واجهة مسجد الأقمر، تنطق بجمال الخط الكوفي وروعة الفن في العصر الفاطمي، ليتلقفني جمال خط الثلث والتعليق (الفارسي) والأسلوب المعماري العثماني كما يبدو في سبيلي محمد علي، و لتتدافع في مخيلتي عظمة مسجده الكبير بقلعة صلاح الدين الأيوبي.


من جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي، بمئذنتيه الهائلتين إلى باب الفتوح، وسور القاهرة، ثم باب النصر، حيث عدنا أدراجنا إلى مكتبة عم أحمد مرة أخرى، لنجد أكواب الشاي الأخضر "بالنعناع" في انتظارنا، كأنما "صبي القهوة" يعرف جيداً كم من الوقت سوف تستغرق رحلتنا.


تناولت كوب الشاي، ورشفت منه بينما عقلي يستحضر شاشة الحاسوب، حين أكتب بضع كلمات ثم أقوم بتغيير الخط المكتوبة به بسهولة و يسر، ولكن في الوقت ذاته، أقل جمالاً وثراءً مما رأيته في رحلتي مع عم أحمد في شارع واحد فقط من شوارع قاهرتي المعزية.


إن الخط العربي يتميز بالكثير من الخصائص، أهمها الإيقاع والتناغم والنسب البديعة الرائعة. وحين انتشر الإسلام حتى بلاد فارس والهند والصين شرقاً، وتركيا والبلقان شمالاً، والمغرب وأسبانيا غرباً، وإثيوبيا وقلب أفريقيا جنوباً، أخذ عن فنون هذه البلاد بقدر ما أعطاها. ومن الخط الكوفي القديم، ازدهرت خطوط أخرى كثيرة في رحلة عمرها زهاء السبعة عشر من قرون الزمان، تاركة تراثاً من الفن شديد الخصوصية و التميز.

في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، متوجهاً للمنزل، أغمضت عيني مفسحاً المجال لروحي كي تحلق في روعة الكلمات، منتشية، بأنغام تسمعها بعينيك.

               

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من ارشيف الحواديت